تعرف على نفسك – 5
ونفسٌ وما سَواها
نظرا لترقب العديد إكمالي لسلسلة نفسانيات التي كنت في وقت بعيد قد بدأتها
حرصاً مني ان انقل بعض تجارب مرت عليّ، و لـوعدي لعدد من قراء هذه السلسلة من الأقرباء
أو من يمر بها، ولحاجتي ربما ان أعود لهذه الدروس حين احتاجها لتكسبني بعض من
الشجاعة التي تلزمني في مرات يخون بها الدهر النفس المتعبة، قررت ان امضي قدماً في
هذه السلسلة النفسية علها تفيد من يحتاج إلى قراءتها.
انتهى حديثنا في الجزء الرابع، بذكر قول مأثور للإمام الصادق (ع) الذي جُمع
له ارث عظيم من علوم البدن والنفس جاد به على طلبته وأقرباءه وكل من طمع في الاستزادة
من علوم لا يعرفها إلا من خصهم الله بها، فكان كتابه طب الإمام الصادق أشهر كتب
العلوم التي أنجبتها بطون أخصائي التغذية والطب، بقي لنا كنز نستزيد منه.
وذكرنا قوله عليه السلام"إن عامة هذه الأرواح من المرّة الغالبة أو دم
محترق أو بلغم غالب، فليشتغل الرجل بمراعاة نفسه قبل أن يغلب عليه شيء من هذه
الطبائع فيهلكه".. كيف ذلك ..؟
يجب ان نذكر ان قول الإمام "بالأرواح" يعني بها الرياح أو مرض
الهوى كالجنون والخبال وما شابه.. ما يفند قولنا بان الهواء يعد أكثر العناصر
تعقيدا في النفس البشرية، التي خلقت منها أساساً.
للنفس البشرية خاصية غريبة تزيد من دهشة المخلوق اتجاه خالقها لما لها من
خصائص عجيبة، إبداع خلقي ليس له نظير، ولكنه معقد كل التعقيد.
تتكون النفس من معناها الصحيح، فهي باللغة تعني عينُ الشيء أي ذاته، وهي
مأخوذه من الجذر (ن، ف،س) الذي تشتق منه عملية "التنفس"،
و"النَفسَ"، أي استنشاق الهواء الذي هو أساس الحياة كما تدلنا على ذلك
الفطرة الإلهية فمن البديهي ان أردت ان تقتل شخص ما عليك سوى الضغط على مصدر
استنشاقه للهواء وهو الأنف والفم والقصبة الهوائية في عنقه، وأي اختناق يؤدي إلى
الموت السريع في حالات مثل استنشاق الهواء الملوث أو الدخان الكثيف وغيره إذ يساهم
في خلل بعملية التنفس نتيجة انعدام الهواء الطبيعي.
إذا كما قلنا ان النفس علتها هو تكوينها الأساسي وهو الهواء رابع العناصر وأكثرها
تعقيدا، فهو سر بقاءها وموتها، وعليه يمكن ان يؤثر بها بطريقة سحرية.
ان عنصر الهواء يتميز بسحر لاهوتي لا يعلمه إلا خالقه، فهذا العنصر الذي
يستعان به في عمليات السحر والشعوذة قادر على قلب حياة إنسان رأس على عقب، كيف
ذلك؟
مزاج الإنسان ليس إلا علة، هواء يموج ويهدأ، ينعدم ويستكين، ليثور ويُغرق
صاحبه، يقول الله سبحانه "وقد خلقكم أطوارا"، يذهب البعض إلى تفسير
الطور على انه المراحل، ولكنه يؤول على انه مزاج الإنسان، وهنا يمكننا ان نذكر الآية
الكريمة "قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب
اليم، قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل انتم قوم مسرفون " سورة يس.
وكذلك الآية"قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل انتم
قوم تفتنون" سورة النمل
معروف ان التطير هو التشاؤم، وكل تلك الأفعال تندرج من جذر (ط، ي،ر) أو
(ط،و،ر)، وتعني المزاج العام للحالة الإنسانية، فالأمر الطبيعي ان يكون الإنسان متفائل
ولكن الأمر الغير طبيعي ان يتشائم ويجعل له أسباب أو علامات للتشاؤم وان تعددت
تسمياتها.
أما اختيار كلمة طير وتطير وطور، تأتي من مصدر الفعل "الطيران"
وهي حالة المزاج الطائر وقيل ان الطائر هو الكتاب، وتفاسيره تتباين ولكن ما يهمنا
هنا ان الله خلق هذا الطور أو المزاج من عينه وذاته أي خلق تمازج النفس من خلال
طيرانها بما تلاقيه من علامات أو أسباب تجعلها في مزاج مختلف ولذا نحن نستخدم
المثل العامي لكل من يقوم بإزعاجنا قائلين "لا تّطلعني من طوري" أي لا
تخرجني من حالة الرواق وتتسبب بغضبي.
إذا التطير حالة من حالات النفس المتمازجة مع الخارج عن المألوف في المحيط
بها، فهذه النفس تستشعر ما يهمها ويجعلها تطير قد تصل إلى أفعال الغضب أو الانزعاج
أو التشاؤم أو الكآبة والحزن، وفي هذه الحالة يمكنها ان عُرفت علة تطرفها ان تسيطر
على حالاتها من خلال تجنب المسبب أو الابتعاد عنه حتى لا يطغى ليكون مرضي.
الحقيقة انه ومنذ خلق الإنسان وهو يمشى وفق ما تُحتمه عليه نفسه ويغالبه
هواه في عصور الظلام كان الإنسان إذا رأى برق مثلا وصاحب هذا البرق إعصار أو صاعقة
أصابت احدهم وأدت لموته فان النفس تغالب العقل فيعود يشعر بان هذا البرق شيء عظيم
لا يمكن غلبه وهو قادر على إلحاق الأذى بالإنسان فيوجب عبادته وإطاعته حتى لا
يتمادى بحصد المزيد من الأرواح ولعلها تكون روحه، ولهذا السبب تعددت الآلة لدى الإنسان،
يقول الله في كتابه المحكم"ان
هي إلا أسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان ان يتبعون إلا الظن
وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى" سورة النجم.
وقوله عز القائل"وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى" النازعات، تدل هذه الآية ان كل أسباب الضلالة والانحلال هي من صنع النفس وهواها، فان نهاها وانتهت عن مجارات هواها فقد فاز بالجنة وهي أسمى المبتغى وعلو الدرجات.
إذا هذا دليل على ان علة النفس هي الهوى، ولكن كيف يمكن ان نتعرف على ما
يتوافق مع مزاجنا وما يتخالف معه ويتسبب بتطير البعض وتشاؤمهم والبعض يقوده هواه إلى
السحر والشعوذة كسبيل الخلاص بدل العلاج الحقيقي، وذلك نابع من جهل النفس وهواها.
لنعلم حقيقة واحدة ان الله هو خالق النفس وحده يعلم سرها، وانه سبحانه خلق
البشر كلهم من نفس واحدة يقول الحق في سورة النساء"يا أيها الناس اتقوا ربكم
الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله
الذي تساءلون به والأرحام ان الله كان عليكم رقيبا"، وهذا يعد إعجاز عظيم ليس
بكبير على الخالق عز وجل، إذ ان كل هذا التمايز والاختلاف والتباين وعدم التوافق
بين الخلق لا يلغي حقيقة أنهم من نفس واحدة.
ولكنه يؤكد ان النفس خلقت من الهوى وان كل مولود له طالعه الذي يتحكم في
مزاجه وصفاته وسلوكه ويجعله بطبع مختلف عن غيره، وان اكتساب المتغيرات تؤدي إلى
اختلاف أصحاب البرج الواحد حتى.
ولتعرف على نفسك يجب ان تتعرف على ما يفرحك وما يتسبب بإزعاجك، فالمعرفة
تلك تؤدي بك إلى الإمساك بعلة صفاتك والتحكم بها فتعود ملك نفسك لا نفسك هي إلي
تملكك.
فمثلا هناك من ينزعج من الصوت العالي فيتسبب له بتوتر يساهم في ان تختلف
تصرفاته ويؤدي إلى غضبه وانفجاره في وجه اقرب الأشخاص له وقد يستغرب من حوله انه
غضب بلا داع وهو أيضا قد يسايرهم في الاستغراب ولكن الحقيقة، انه ذو طبع ناري مثلا
يساهم علو الأصوات في استفزازه وإثارته بدون سيطرة، ولو انه عرف ذلك وجعلها في
ذاكرته الباطنية لاستوعب ان هناك صوت عال يمكنه ان بشاغل نفسه عنه ويضبط أعصابه في
معقبات النتيجة حتى لا يؤذي غيره ويجعل الآخرين ينظرون إليه بريبة.
ولنا متابعة....
تعليقات
إرسال تعليق