هوى البحر.. كالبحر
كنت أقول حين كنت طفلة بأني لو خيرت بين أن انشأ بين البساتين والمزارع أو على ضفاف البحر لاخترت الأول لعشقي للزروع وروعتها، ولكرهي للبحر الذي دائما تتندره قصص أمي حيث يوحي لنا بغدره وكم من الأرواح زهقت داخله بالرغم من إني ولدت في عائلة مرتبطة بالبحر.
كنت حين أمر غادية من بيتنا القريب من البحر لأذهب إلى بيت جدي فأمر به، منذ طفولتي والى أن انتهيت من الدراسة الثانوية –لأنه ردم بعدها ولم اعد أراه مثل ذي قبل-، كان يخيفني صوت موجه العالي وتحركها بالذات في الشتاء فأرتعب وأسرع الخطى لابتعد عنه،وإذا كان الوقت قريب المغيب حينها تحتجب الشمس تحت غيوم سوداء وأشعة نورها المطفية تفلت من بين تلك الغيوم كالأثيم المتلصص، مع صوت الموج الغاضب بشظاياه المتكسرة على ظهور الصخور يتطاير ماءها نحوي، وترشح وجهي فأركض لعلي افلت من عقاب الجحيم،هذا المنظر كانت ترتعد له فرائصي.. لكم كنت اكره البحر وهذه الصورة بالذات، فكنت أخافه مخافة عظيمة.
كان ذلك المنظر يطاردني حتى في أحلامي فأرتعب، وبقيت طيلة تلك السنين في هجر مع البحر ابتعد عنه قدر ما أستطيع، حتى هجرني هو.
كنت أرى عظمت معجزة الله لنبينا موسى عليه السلام إذ فلق له البحر، وحين كنت في الصف الخامس الابتدائي كانت صورة "فلق الطود العظيم" مرسومة في كتاب المدرسة، اذكر بان تلك الرسمة كانت تخيفني فأقول سبحان الله كيف أمكنهم أن يسيروا والبحر عن يمينهم وشمالهم إلا يخافون غدره ولؤمه، ولكني أدرك بان الله هو فالقه لذا فانه في أمر من خالقه، كانت ثقتي بالبحر معدومة تماما حينها، لاني كنت متيقنة بأنه لا يمكن أن يفلت منه إلا من تمرس في اللعب معه وحتى ذا لا يؤمن غدره.
ابتعد البحر عن بيتنا واتسع المكان وبدا البحر بعيدا عن أعيننا حتى على مد الأفق، لم اعد أشم رائحة الطين المالحة فيه، ولا رائحة الطحالب الخضراء ولا روائح تكدس "المخلفات" التي يلقيها الناس والتي تدل عليه، لم نعد نحيي فيه طقوس توديع صفر واستقبال الربيع حين كنا نذهب مع الصبية لحرق كل ما يمكن حرقه على أنها الأيام السود من صفر ليهب لنا الأيام الفرحة من ربيع كانت تلك الطقوس الجميلة تتم داخل البحر وهو منحسر إلى أقصى نقطة فيه.
لم نعد نصطاد منه صغار السمك والروبيان التي نتقاسمها بعد إتمام عملية الصيد طيلة النهار لنعود بعدها بخفي حنين.
خبئ البحر داخله أجمل أيام عشتها في حياتي، لم أدرك ذلك إلا بعد أن هجرني قسرا، عرفت باني اشتاق إليه وحين أمر صوبه يخطفني النظر إليه ويهابني حس موجه وريحه الذي يذكرني بعبق الماضي الذي أفل.
اشتاق إليه كثيرا وأعود وأنا اردد من داخل سيارتي حين أمر به"اعتذر منك فسامحني على كل ما بدر مني من خطأ فمن لا يعرفك يجهل قدرك" مرارا اعتذر له لاني بالفعل اشعر بمرارة الندم على إني كنت أرد له جميل النكران والكره وهو الذي وهب لي ذكريات جميلة وعرفني بطبيعة يصعب على الأطفال اليوم معرفتها إلا في مواسم، بعد أن أصبح البحر بعيدا عنا ولا يرى إلا في المنتجعات.
اجل لقد فوّت على نفسي مصاحبته، ولم أكن كشقيقي الذي يعشقه بكل حماسته، فلم افهمه ولطالما رأيته غادر مكار يعطي من طرفه حلاوة ويروغ بمن يريد كالثعلب، وخفته حين هاجمني في منامي بأبشع الكوابيس إذ لم يكن حيوان مفترس ولا طير جارح بل كان من يطاردني البحر بأمواجه ومياهه.
ولكن هل ينفع الندم ، فها أنا احتاج إلى صديق بحجمه يحفظ لي سرا ويبوح لي بنصيحة ، أبث له شكوى ويحمل عني أسفار الحياة ومشقاتها، هيهات أن يعود فقد هجرني إلى الأبد.
تعليقات
إرسال تعليق