تعرف على نفسك _ 6


الروح وطبائع النفوس





يتميز كل واحد فينا او كل نفس بطابع يمكن له من خلالها ان يحدد شخصيته وسلوكه بالاعتماد على طبعه او طابعه الخاص الذي يتحدد منذ ساعة مولده حيث ترسم له النجوم برجه وتشكل شخصيته وفق ذلك الرسم الذي يتسمى به نجمه (اسم برجه) في ساعة يمر بها الكوكب الذي يشكل طابعه واقصد بالكوكب هم الكواكب ذاتها المريخ والمشتري و... أو حتى القمر.
يشبه تجمع تلك النجوم بالوشم الذي يرتسم من نقاط تهندس له شكل طالعه بمجموعة متآلفة كتلك التي يتم دقها على الجلد، وهي تتجمع وكأنها تتلو صلاة الولادة للمولود الجديد الذي ستصحبه طيلة حياته، فتحدد رسمه وشخصه وصفاته ومزاجه وبعض سلوكه وقدره وحتى ما يحب وما يكره.
اذن، ارتباط النفس بالنجم ارتباط فطري وقدري، وبذلك تعود كل نفس الى طابع الأصل من العناصر الأربعة الرئيسية في التكوين لتصب عليها مادة إضافية منها، اذ ان النفس تتكون من تلك العناصر الأساسية فإذا كانت ترابية او مائية او نارية او هوائية فهي تزيد في هذه المادة بحسب صنف رسم النجوم التي تحدد انتماء المولود الجديد لأي شكل من الاشكال الاثني عشر التي تسمى بالأبراج.
 
الكثير يعتبر أن النفس انما هي ذاتها الروح ولو عدنا لبداية البحث في هذه السلسلة فقد شرحت بعض من هذه المفارقات التي سأتناولها ببعض التفاصيل هنا.
تختلف الروح عن النفس وذلك كما أوردها الله سبحانه في كتابه الكريم، اذ تعتبر الروح احد الاسرار الإلهية الكونية، وتعتبر من الغيبيات الكبرى التي امتنع الله سبحانه وتعالى ان يعرفها او يطلع أحد من خلقه على ماهيتها، قال تعالى "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً".
بينما بيّن الخالق سبحانه عدد كبير ودقيق للنفس بل كان النبي والصحابة واهل البيت يحثون على التعرف على النفس بغية مجاهدتها وترويضها فهي المتحكم بالجسد وبالتفكير وبالحس، لذا فإذا كانت النفس تجسد علة الجسد وهي قوامه فان الروح كما يقول عنها سيدنا الامام الصادق عليه السلام " إن الروح لا تُمازج البدن ولا تُداخله ، وإنما  هي كِلَلٌ للبدن ، محيطةٌ به" ..اذاً الروح التي نتحدث عنها هي محيطة بأجسادنا ذات الانفس المتطبعة والمتجسدة والمتداخلة مع النفس.
ان الله جل جلاله حين خلق اكبر الغيبيات وأكثرها ادهاشا وأعني بها "الروح" اختارها لتكون قريبة لكينونته، تتسم بلاوجود ولا مكان فالروح لا يمكن ابصارها ولا يمكن ادراكها أو لمسها أو شمها، فهي امتداد للخالق ويمكننا الاستشهاد بذلك من قوله سبحانه في سورة الحجر "فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" ويعني نبينا آدم عليه السلام الذي نحن البشر كلنا منه وكلنا نحيّا بفضلة تلك الروح المقدسة، لذا فإن الروح هي امتداد له سبحانه وهذا ما يفسر إحاطتها بالغموض الكبير في كنتها، ولعل أبرز صفاتها أنها باقية لا تموت لأنها من روح الله، ففي حالة الموت كما نعرف تنسل الروح من البدن ولكنها ابدا لا تموت فهي باقية وهي لا تغفو ولا تنام ولا تتصف بالصفات البشرية، ولعلي عثرت على حديث جميل يفي غرض قولي وفكرته ويشرح ما اريد الكلام فيه "روى العياشي بالإسناد عن الحسن بن محبوب عن عمرو بن ثابت عن أبي المقدام عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما من أحد ينام إلا عرجت نفسه إلى السماء و بقيت روحه في بدنه و صار بينهما سبب كشعاع الشمس فإن أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح النفس و إن أذن الله في رد الروح أجابت النفس الروح و هو قوله سبحانه: «الله يتوفى الأنفس حين موتها» الآية، فمهما رأت في ملكوت السموات فهو مما له تأويل و ما رأت فيما بين السماء و الأرض فهو مما يخيله الشيطان و لا تأويل له" انتهى الاقتباس. الا ان الشاكل هنا هل التي ترتفع هي النفس أو الروح لأني قرأت أكثر الاحاديث والآيات أن من يعرج الى السماء هي الروح، وذلك لان النفس ليست قادرة على أن تخرج من سماء الدنيا لمحدودية قدراتها، ولعل من نقل الحديث قد اشكل عليه ذلك، وعلى سبيل المثال أنقل هذا الحديث للتوضيح، "عن علي (عليه السلام) في حديث الأربعمائة: لا ينام المسلم و هو جنب لا ينام إلا على طهور فإن لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد فإن روح المؤمن ترفع إلى الله تعالى فيقبلها و يبارك عليها فإن كان أجلها قد حضر جعلها في كنوز رحمته و إن لم يكن أجلها قد حضر بعث بها مع أمنائه من ملائكته فيردونها في جسده" انتهى الاقتباس.
نلاحظ أن كل الصفات البشرية السيئة وحتى الخيّرة نسبها الله سبحانه للنفس لا للروح، اذا النفس هي من تموت بموت البدن حتى قال الله جل شأنه "كل نفس ذائقة الموت"، "وما كان لنفس ان تموت الا بإذن الله" في سورة آل عمران، "وإذ قتلتم نفسا"، "ونقص من الأموال والانفس والثمرات"، "ثم توفى كل نفس ما كسبت" في سورة البقرة، "قتل نفسا بغير نفس" سورة المائدة، "ولا تقتلوا النفس التي حرم الله " سورة الانعام ، "يهلكون انفسهم"، "يجاهدوا بأموالهم وانفسهم"، "وتزهق انفسهم" في سورة  التوبة، ولنلاحظ أ، الله سبحانه نسب للنفس الموت والقتل والنقص والوفاة والجهاد والزهق، وكل تلك الأفعال تعني الانتهاء والفناء، ولم ينسبها أبدا للروح، ولو كانت الروح هي النفس لأتى سبحانه على استبدال أحداها بمفردة الروح ولكنه لم يذكر سبحانه أن الروح هي التي تموت أبدا.
 
إن عمل الروح في الجسد والنفس يشبه الى حد كبير "مفتاح" الدائرة الكهربائية حين تكتمل تحتاج الى ذلك الزر لتعمل، فالمفتاح ليس هو الكهرباء ولكنه اهم منه لأنه من يُشغّله ويطفئه وبدونه لا يمكنها أن تعمل ولا يمكن الاستفادة من المصباح أو المكيف أو أي جهاز آخر، كذلك الروح هي تُحيي الجسد وتميته ولكنها لا تعمل عمل النفس، فالنفس هي التي تحرك الحواس بالإحساس والشعور واضمار العواطف والنوايا وتسليط الحواس واستنهاضها، كما انها تحرك الجوارح وهي تتحكم بعملية الزفير والشهيق، وتسمى بالنفس لان ابرز ميزتها أنها "نفس" أي إنها موجودة ما دام الانسان حيّ، تحركه، والمعنى اللغوي للنفس هي "عين" الانسان مثل أن نقول هو نفسه، أو هو عينه، أي تأكيد على أنه هو، فالنفس أشبه بالذات الإنسانية التي تشغل الانسان بالتفكير فتوجهه ، ولنذكر بعض صفاتها فقد حدد الله سبحانه مسؤوليات النفس بدقه في القرآن ولعل أهمها ما قاله في سورة الشمس "ونفسٍ وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها"، ان للنفس سلطة كاملة على البدن وتحريكه بما تشتهي وفق إلهام غيبي له اتصال مباشر طبعا بالروح، وسنأتي على ذلك لاحقا.
كما ذكر سبحانه بعض صفات النفس:
"بما لا تهوى أنفسكم" البقرة، "وان تبدوا ما في أنفسكم او تخفوه يحاسبكم به الله" س. البقرة، "واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والاصال ولا تكن من الغافلين" س.الأعراف، إذا نفهم من تلك الآيات أن النفس تتصف بأنه يغالبها الهوى أي الميل بحب الشهوات والدنس، وإنها محاسبة حتى في تحريض الفكر في داخلها ودون أن تجهر.
هنا يتكشف لنا الفرق بين النفس والروح، فالنفس هي دنيوية مشبعة بالغرائز والشهوات والشر ولكن مدى التصاق النفس بالروح ينزهها من الكثير من هذا الدنس وذلك لان الروح طاهرة مطهرة لأنها متصلة بالخالق، وكلما تفاهمت النفس مع الروح كانت سامية في الالهام
ولذا فان الروح هي التي تعطي الجسد والنفس الحياة فتحرك الجسد والنفس بقدرة الله لإحاطتها بهما ولكنها لا تتسلط بالمطلق ليس لضعف منها ولكن لأنها تولد بنطاق معين يتمدد وينكمش بحسب موجات الطاقة التي تكونها النفس وتعطي بعدا للروح في تلاقيهما، فاذا لم تندمج النفس ذات الطبع السيئ مع الروح ذات الطابع الخيّر فإن هذا الاختلاف يخلق هوة عظيمة لا يمكن ان تندمج فيهما الاثنتين وبسبب تسلط النفس الناقص، اذ ان النفس رغم تسلطها الا انها بمدى وحيز محدود لا يمكن أن يتمادى الا اذا استعلت واستقوت فتبهت الروح وتطيع النفس، لان الروح هي الطاقة التي تولد معنا وهي المدى الذي يكبر معنا، وهي هالة تفترش كامل الجسد وتتآلف معه.
بينما النفس انما خلقت بجانبين متناصفين "الفجور والتقوى" ومتى ما تملكنا النفس وسيطرنا عليها كان التقوى سائد والا فان النفس لها غلبة التحكم والتكبر والسيطرة فهي كما وصفها الخالق عز وجل انها "النفس اللوامة" الفجر، وكذلك " ان النفس لأمارة بالسوء" كما انها كذلك "توسوس به نفسه" أي إنها محرضة، فالنفس مشاكسة جدا واذا تركت فجرت، فهي تتحكم بالطابع فترسم شخصية الفرد وسلوكه واعماله وخلقه ومزاجه انها ممكن ان تستبدله استبدال كامل، ولكن من الممكن ان نسيطر عليها ونتحكم فيها ونروضها لتكون "النفس المطمئنة" ، اما الروح لا علاقة لها بذلك فهي قد تكون فقط مفتاح التشغيل ولمن ابتعاد الروح قد يؤدي الى تعب النفس وهذا الامر يحتاج الى تبيان سنأتي على ذكره في المرات القادمة..
والآن..
اغمض عينيك فكر بشيء فلسفي، وجودي، تأملي، عن عظمة السماء او عمق البحر أو الكواكب او جناح الطائر ، تنفس بعمق .. هل يأخذك تفكيرك الى ان تسكن في متاهات ذلك التصور!!
يعلو بك الى السماء لترسم شكلا له او يأخذك الى أعماق أعماق البحر لتمشي وسط الماء بين سهول وهضاب ولكن في المياه، او يأخذك تطوف سابحا بين المجرات تبحث عن كوكبك الخاص، او انك كريشة في جناح طائر مهاجر ترى الجزر وزرقة المياه وأنت على سريرك أو على كرسيك  !!
 
هذا الادراك لمفاصل التصور هو في الحقيقة ، أنت عشتها بمغامرة لحظية ولكنها حقيقة، فروحك كانت فيما اردتها ان تكون، بيد انك لم تتواجد بجسدك فنفسك لا يمكنها ان تبتعد عن جسدك ولكن لروحك تلك الطاقة التي يمكنها ان تكون حيثما اردتها ان تكون، الا ان تضعف بسبب طغيان النفس وتسلطها فروحك ستكون سجينة جسد تريد منه الخلاص لذا نتعب، ونتمنى الخلاص فعلا لأننا نفقد طاقتنا التي ضعفت في ارواحنا.
هناك من يقول وكيف علمت بهذا المدى للنفس والروح، قد تكون النفس اكبر طاقتها من الروح، في الحقيقة اني استعين بقول الله سبحانه حين قال "لا يكلف الله نفسا الا وسعها"، لذا انا اكيده على أن النفس دنيوية ومحدودة القدرات، بينما الروح هي ربانية وسامية، ومتى ما هُذبت النفس استطاعت ان تتآلف مع الروح الطاهرة، وأن ترافقها وتكتسب منها صفات لا يمتلكها كل البشر الا من كان قادر على مرافقة روحه، فأن هناك العديد من الصفات الربانية التي لا يتصف بها الا من يقال عنهم أنهم أهل تقوى كالبصيرة والتبصر والتفرس ومعرفة الغيبيات والتنجيم ذلك لأنه متى ما صفيت النفس رافقتها الروح وجعلتها قادرة على ان تسمو لتصل معها الى ما فوق الدنيا.
وهنا لأوضح شيء أنا مقتنعة فيه، فمثلا هناك من يملك بصيرة وقدرة على التفرس والتنجيم وقد لا يكون كافر او ليس بموحد أصلا فهناك الكثير من الهندوس والبوذيين الروحانيين الا نفكر بذلك من أين أتتهم تلك القدرة على التبصر واكتساب الهدوء والقناعة والزهد انها كلها أمور تتعلق بانسجام النفس مع الروح، أجل هذا الامر صحيح واكاد ابصم عليه وذلك لسبب واحد أولئك اتبعوا التقوى في حياتهم، أجل التقوى ليس هو بدين بل هو سلوك ولأدلل على قولي بالاستعانة بقول الله سبحانه :
"وان تعفوا اقرب للتقوى"، "اعدلوا هو اقرب للتقوى"، "ان الذين يغضون اصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة واجر عظيم"، "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان"،  اذا التقوى هو سلوك وليس تدين، هو قوامة النفس وتطهيرها وعزلها من لباس النجس والرذيلة وكل ما هو دنيء، لم يرتبط التقوى بمعرفة الله المباشرة والا لما قرن الله الفعل باسمه في الحث على التقوى حين امر بأكثر من سورة "اتقوا الله"، لأنه سبحانه يشير بفعل التقوى في قوله الى السلوك القويم واكتساب الصفاة السامية، اذا التقوى هو ان تقي نفسك الفعل السيء او حوبة الفعل السيء الذي يعود عليها بلباس دنيء فتتحول صفاتك الإنسانية السامية الى حيوانية دنيئة، بكثرة ما تقوم به من أفعال سيئة، لذا فان اي انسان كان يعرف الله او لا يعرفه متدين او غير متدين يتجنب أذية البشر ويقوم بأفعال البر والخير يقول الخالق عز وعلا: "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم" أي انه يناله تطويع أنفسكم على البذل والكرم والعطاء تزكيتها بفعل وسلوك الخير.














تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هوى البحر.. كالبحر